٦ سنوات من الغربة | بقلم رشا الحلبي

إلى الثلاثين من سبتمبر-أيلول 2017، أعود كلّ عام بالذاكرة. إلى اليوم الذي حزمت فيه أمتعتي، عبارة عن حقيبة زهرية اللون وأخرى أصغر حجماً جررتها معي حين صعدت الطائرة. كلّ ما فكرت به آنذاك هو اختيار أفضل السترات الشتوية التي ستقيني برد إسطنبول. وإلى مطار رفيق الحريري الدولي-بيروت، توجهت مع أمي وإخوتي في لحظاتي الأخيرة في لبنان.

أذكر جيداً أنني اخترت التوجه إلى مطعم “زعتر وزيت” لتناول المناقيش للمرة الأخيرة، ليقيني أنني لن أجدها في المطبخ التركي. لم يسبق لي أن اعتدت على المطابخ الأخرى. كنت أبلغ من العمر حينها 23 عاماً. ولم أختبر يوماً ثقافات مختلفة.

قليلاً كنت أعلم في تلك الليلة، أنني أغادر لقضاء سنواتي التي تسبق بلوغي سنّ الثلاثين. كنت أشعر آنذاك أن رحلتي وتجربتي في العمل في إسطنبول لن تدوم كثيراً. حتى إنني لم أكن مقتنعة من قدرتي على الصمود هناك وحيدةً.

خوف ممزوج بقلق مما ستحمله تجربتي في بلاد لا يتحدث سكانها لغتي الأم العربية. وعلمي أن لغتي الفرنسية والإنكليزية لن تسعفاني حقاً. كنت قد أخذت دورة وحيدة للمبتدئين بالتركية ولكنها تعود لعام 2013، أي أربعة أعوام قبل أن يصلني عرض العمل من القناة التلفزيونية في إسطنبول. وكنت حينها قد نسيت بالفعل معظم ما تعلمته كوني لم أمارس اللغة التركية بالأساس.

لحظات الوداع كانت الأصعب في تلك الليلة. وحرصت والدتي على طمأنتي بأنها ستزورني قريباً.

وصلت إسطنبول فجر الثلاثين من سبتمبر-أيلول. لم يكن في استقبالي أحد. كنت قد حجزت ليلتين في فندق بمنطقة أيوب، وكلّي أمل بأنني سأتمكن من إيجاد منزل للإيجار في غضون يومين. وبالفعل، وضعت أمتعتي في صباح يوم السبت وتوجهت للقاء سمسار عقارات لتفقد المنزل الذي أُبلغت بتوفّره. لم أفكر ملياً في ذلك اليوم. لم تكن لدي بالأساس تجربة البحث عن منازل، ولا الدراية الكافية لتقييم أماكن السكن بالأساس. إذ لم يسبق لي أن غادرت منزل الأسرة. حتى حين كنت أعمل في بيروت في السنوات الخمس الأخيرة، كنت أستقلّ الحافلة يومياً إلى العاصمة وأعود إلى مدينتي طرابلس في رحلة تستغرق ساعتين ذهاباً وساعتين إياباً. باختصار، كان المنزل الأول الذي سأنتقل للعيش فيه على انفراد.

اتفقت مع السمسار يومها وعدت في اليوم التالي أي يوم الأحد لشراء الأثاث والأجهزة الإلكترونية التي كنت بأمسّ الحاجة إليها، فاشتريت أريكة وغسالة وبراداً. وكان في المنزل سريرٌ قديم ترددت في استخدامه في بادئ الأمر، وعقدت العزم على شراء آخر جديد في أول فرصة تسنح لي.

في صباح يوم الإثنين، الأول من أكتوبر-تشرين الأول، خرجت من الفندق واتجهت إلى المنزل، منزلي. وضعت أمتعتي واتجهت بعدها إلى القناة التلفزيونية لبدء يومي الأول في العمل. يومان فقط منذ وصولي، لم تسنح لي فرصة رؤية المدينة ولا شراء مستلزماتي.

أذكر يومها تفاصيل عودتي إلى المنزل بعد يومي الأول في العمل. تملكني الخوف يومها. حتى إنني أضعت طريق عودتي ولم أتمكّن من الوصول إلى المنزل. وقفت في إحدى الأزقة وبكيت. شعرت بوحدة شديدة لأول مرة في مساء الأول من أكتوبر. راسلت السمسار ليرسل لي العنوان من جديد. لم أكن معتادة حتى على استخدام تطبيق جوجل لتجوّلي في لبنان. فرحلاتي هناك بالأساس كانت تقتصر على الطريق المؤدية إلى العمل والعودة في مسارات متكررة وروتينية.

في تلك الليلة، وصلت إلى المنزل بعد عناء. كان المبيت الأول لي في منزلي الأول. جلست يومها على الأريكة. تذكرت أنني لم أتمّ تسوقي المتعلق بأغطية السرير والوسادات والمناشف وغيرها. استلقيت في تلك الليلة على الأريكة التي بالكاد نزعت عن جوانبها النيلون، ولم أجد ما يقيني من برد تشرين. فتذكرت الشّال البسيط الذي كنت قد أحضرته معي من بيروت. التحفت به وأغمضت عينيّ بصعوبة. ونمت في وضعية الجنين. تلك الوضعية التي يلجأ إليها المرء عند شعوره بعدم الأمان والخوف والقلق. كانت زوايا المنزل فارغة. الصمت مطبق. والشوارع مظلمة. وأنا أجلس في زاوية الأريكة، أحاول جاهدة الاستسلام للنوم. أحاول تناسي البرد كما فعلت بائعة الكبريت في القصة الشهيرة. أقول لنفسي إن كل شيء سيصبح على ما يرام.

عبارة كررتها لنفسي في أيامي الأولى في إسطنبول. ومع مرور الوقت، أقنعت نفسي أنني سأكفّ عن تكرارها على مسمعي. لكنني ما توقفت يوماً عن تردادها. رحلتي التي ظننت أنها لن تطول، وصلت لعامها السادس. وها هي تطرق أبواب عامها السابع رويداً رويداً. غربتي التي كنت أقنعت نفسي بوضع حدّ لها عامي 2018 و 2019.. خذلها فيروس كورونا والإغلاق العام حول العالم، فجعلني أغضّ التفكير عن الأمر. وتسارعت الأيام حتى وصلت لبداية 2022، حين قررت وضع حدّ لاكتئابي الحادّ وأخضعت نفسي لجلسات علاج نفسيّ مع طبيبة كنت محظوظة لخوض هذه الرحلة معها. ومع قرب عام 2023 على نهايته، أجد نفسي أمام تاريخين يعنيان الكثير لي: 30 سبتمبر-أيلول 2017، و 26 نوفمبر-تشرين الثاني 1993.

في التاريخ الأول، ذكرى غربتي. التي فيها تعلمت أن الغربة ليست في البُعد عن الدار ولكن في قرب من لا نشاكل. فيها نغادر أوطاناً صغيرةً في قلوب من نحبّ. ومعها تأتي الأوجاع، ولكن ليست فُرادى. أوجاع لا يعلم بها إلا من عاشها. تصمد لحظة وتتهاوى لحظات. تبتسم وهلة وتبكي أياماً.

هل جربت شعور أن يكون لديك خبر سارّ ولا تجد من تنقله إليه؟ أن تمرض ولا تجد من يرافقك في مرضك وعلاجك؟ أن تدخل غرفة الطوارئ لا حول لك ولا قوة، فتسألك الممرضة “هل معك مرافق لتسجيل دخولك؟”، فتنفي، وتُضطر أن تترجل عن الكرسي الذي استلقيت عليه لكثر تعبك، وتمشي بخطوات مترنحة لإتمام المهمة بنفسك؟ أن تمضي أيام إجازاتك من دون من يؤنس أيامك؟ أن تشعر بالوهن ولا تجد من يطبطب عليك؟ أن تشاهد من وراء شاشة هاتفك لحظات تخرّج إخوتك أو فرح أقاربك دون أن تشاركهم الفرحة؟ أن تمضي الأعياد وحيداً فتصبح شأنها شأن سائر الأيام العادية، وتفضّل لو أنك تعمل في ذلك اليوم كي لا تمضيه وأنت تتأمل سقف منزلك؟ أن تشاهد أفراد أسرتك يكبرون عمراً وينضجون سناً وتتفاجأ بهم عند كل زيارة لك، والتي قد لا يتجاوز عددها مرة أو اثنتين في السنة؟ فيُهيّأ لك أنك لا تعرفهم حق المعرفة بعد اليوم. وأن الغربة جعلت القريب غريباً والغريب بعيداً. وحين تتجوّل في أرجاء حارتك القديمة أو المدن التي عرفتها، فتشعر بالغربة داخل وطنك وتعود بعد إجازتك وتتذكر أنك غريب أيضاً في غربتك. لا تدري إلى أين تنتمي.

ثم تقنع نفسك أن العودة هو القرار الصائب. ولكن الغربة في وطنك أقسى بأضعاف عليك من غربتك في الخارج. وتتأمل نفسك وأنت على أعتاب الثلاثين، وتسأل نفسك: ماذا أنجزت وماذا حققت؟ وهل كان يستحق الأمر كلّ هذا العناء؟

لا تسيئوا فهمي، فأنا مؤمنة إلى أبعد الحدود أن الأقدار مكتوبة لنا، وأن الله أراد لي السفر والغربة. ولن أنكر أنها علمتني الكثير الكثير. ولكن الدروس الأعظم في الحياة، تأتي مع الألم الأكبر.

أدوّن هذه الكلمات في مقهى اعتدت ارتياده خلال العامين المنصرمين، بالقرب من مكان سكني. فيه دوّنت خيباتي وتجاربي المختلفة في دفاتر مذكّراتي. كنت أنوي أن أعدّ فيديو أنشره عبر صفحاتي على مواقع التواصل الاجتماعي، فيه أبرز لحظاتي خلال ستة أعوام من الغربة. لأيام وأنا أقول لنفسي إنني سأنجزه. لكنني لم أتمكن من فعل ذلك. شيء ما في داخلي يدفعني لعدم القيام بذلك، بعكس العام الفائت. حينها، أعددت فيديو مماثل ونشرته عبر صفحاتي. حتى إنني جلست اليوم في المقهى بنية إعداده. جلست واغرورقت عيناي بالدموع. لم أقو على البكاء. أخرجت دفتر مدوناتي وقلم الحبر وبدأت بتدوين ما يجول في خاطري، لتخليد ذكرى 6 سنوات من غربتي.

أمضيت الأسبوعين الفائتين وأنا أخبر المقربين مني ومحيطي، إنني أنتظر الثلاثين من سبتمبر-أيلول بفارغ الصبر. لشعوري ربما بأنه تاريخ فارق في مسيرتي وتكويني. يحتاج كلّ منّا، مع مرور الوقت، للجلوس مع نفسه وتأمّل ما أنجز، من بعيد، بعين التجرّد والموضوعية. في جلستي الأخيرة مع طبيبتي النفسية، تحدثت معها عن ما أشعر به مع اقتراب هذا التاريخ. وتزامنه مع تاريخ بلوغي الثلاثين بعد شهرين.

رسمت على دفتري ميزاناً، وقلت لها إنني سأضع خيباتي وإنجازاتي. جعلت كفّة الميزان تميل يومها إلى الخيبات. كانت أثقل بكثير. شعرت بها في قلبي، أكثر من قدرتي على تصويرها. بعض الخيبات يصعب علينا التعبير عنها دفعة واحدة. لا سيّما عندما تصيب في مقتل، أكثر ما مجّدناه أو ظننا أنه الأهم بالنسبة لنا. قيم، أشخاص وأماكن. يمكن للخيبات أن تكون قاسية إذا ما أصابتها. والضربات في الغربة أقوى بكثير حين تصيب المرء في هشاشته. لكنني على ثقة أنها تحدث لسبب. قد نحتاج أحياناً لخضة، تدفعنا لنعيد النظر في كل شيء.

أدرك جيداً وأنا أكتب هذه الكلمات، أن العام المقبل سيكون مختلفاً. فلا عام يشبه ما قبله. لكن فكرة بلوغي الثلاثين ستدفعني نحو اتخاذ قرارات أكثر حزماً في كلّ شيء. فاللهو في أزقة العشرين الفسيحة لا يشبه بشيء أزقة الثلاثين. وللغربة أثمان يدفعها من أراد اللحاق بأحلامه وطموحاته. لا شيء بالمجّان.

في الذكرى السادسة لغربتي، سأتعلّم تمجيد خيباتي، فمعها أتعلّم وبفضلها أحقّق وأكبر.

أنهيت كتابة كلماتي التي ظننت أنها لن تتجاوز المائة كلمة، كمنشورٍ قصير على مواقع التواصل الاجتماعي. لكنّها تحولت لسيل من الكلمات. نسيت بسببها كوب الشاي ليبرد. حتى إنني لم أتناول سوى ملعقتين من الحلوى التي طلبتها. أشار لي صاحب المقهى وسألني عن سبب عدم شربي الشاي وانغماسي بالكتابة. فأشرت له كي لا يقاطع حبل أفكاري.

ولوهلة، شعرت برغبة عارمة في البكاء وترك دموعي تتدفق بانسيابية. فأنا بالأساس من النوع الذي يبكي كثيراً. أبكي في حزني وفي فرحي. لقناعتي أن الدموع هي أصدق أساليب التعبير عن النفس. حتى إن أحدهم قال لي مرة إنني سريعة البكاء، ودعاني مراراً للكفّ عن البكاء عند استيائي. فقلت له إنها طريقتي في التعبير. أدع نفسي على سجيتي. يحتاج الجسد للتعبير عن نفسه دون خوف من أن يتمّ وصمه بصفات كـ”الحساسة” أو “الضعيفة”. هراء!

أنهيت ما استطعت من قطعة الحلوى، ولاحظت حينها أن الساعة تجاوزت الحادية عشرة مساءً، ولم يتبق زبائن في المقهى غيري. سارعت لدفع الحساب، وأنا في طريق عودتي إلى المنزل، قلت لنفسي إنني سأترك نفسي على هواها. لعلّي سأبكي مزيجاً من المشاعر الليلة. حزن على ما مضى وفرح ممّا سيأتي. سأنظر للمستقبل بعين المتفائل.

لا تدري، لعلّ الله يُحدث بعد ذلك أمراً. فيُذهب غمّاً، ويُزيل حزناً، ويطرد همّاً، ويُقرّب بعيداً.

بقلم رشا الحلبي

Leave a comment